الجمعة، 4 أبريل 2008

المُوَقِعُ أدناه . . .


(ميكانيكي السعاده)


أخذت أتأمل اليافطة المكتوبة و على شفتي ابتسامة ساخرة خشيت أن يلحظها (الأسطى غريب) صاحب الورشة ... أشحت بوجهي كي لا أثير حفيظته و أخذت أفكر محاولاً إيجاد علاقة ما بين السعادة و الميكانيكا ... كنت على وشك أن أنبهه أن الهاء الملحقة بآخر كلمة (السعاده) يجب أن تعلوها نقطتان لتصبح تاء مربوطة لولا أن تذكرت أن (غريب) و بمعجزة خارقة ... يستطيع كتابة اسمه باللغة العربية ... من اليسار لليمين !! .. مما كان كفيلا هو الآخر بجعل ابتسامتي تزداد اتساعاً لا إرادياً ...
- معلش يا أسطى ممكن بس تبصلي على العربية لحسن أنا مستعجلة أوي ...
تلفتُ لألقي نظرة على صاحبة الصوت الأنثوي ... تأملتها لوهلة و أخذ اعتقادي الأزلي في أن بطلات (منى نور الدين) لا يظهرن إلا في (جاردن سيتي) وحدها يتلاشى بسرعة هائلة ...
وقفتْ بجوار السيارة و بدأ القلق يرسم ملامحها الدقيقة ... اقترب (غريب) من السيارة و ألقى نظرة سريعة على محتوياتها ثم نظر للفتاة و أردف بثقة ..
- سُسَت الموتور بايظة يا ست هانم ..
- إيه ؟!..
- سُسَت الموتووور ...
- آه .. طيب و دي تاخد وقت في تصليحها ؟ ...
- يعني .. نص ساعة كده .. بس هتكلف شوية .. عشان هبعت حد من الصبيان يجيب الحتة الأصلي بتاعتها من (السبتية) ...
- يعني هتكلف قد إيه كده ؟ ...
- يعني ... حوالي 500 جنيه ..
تنهدت بضيق ثم أضافت ..
- طيب .. ماشي بس ياريت تخلصني بسرعة ..
نصب علني !! .. ما حدث أمامي حينها كان تعريفه المطلق ...
كنت على وشك أن أفضح الأمر برُمته لولا أنها باغتتني بالإشارة إلى وجهي و التحديق فيه بتعجب أبله مضيفةً ...
- هو مش حضربتك برضووو ... حضرتك بتيجي في التليفزيون .. مش كده ؟ .. بيتهيألي أنا شفت حضرتك ... في برنامج ... آآآآ ...
انتظرتها لتكمل عبارتها ... و لكنني الحقيقة لم أتوقع أن تتذكر اسم البرنامج الذي أقدمه .. لأنني و ببساطة لم أكن مقدما لبرنامجها المفضل ... (مهاترات الجمال) ! ..
صمتُ لبضع لحظات واهباً إياها مزيداً من الإحراج ... ثم أومأت برأسي و كأنني أتفهم أن النسيان ما هو إلا عادة سخيفة يجب أن يقلع عنها الجميع ... و أردفت ..
- (فتح عينيك) ..
فتحت الفتاة شفتيها لتعلن أنها تذكرت .. و لكنها ما لبثت أن أطبقتهما من جديد و ابتسمتْ في حرج ..
كلا يا عزيزتي ... هذا ليس فيلم (مصطفى شعبان) .. و لا هو أغنية (العزبي) أيضاً .. !! .. مسكينة هي تلك الفتاة ... لابد أن قنوات المنوعات قد استولت على (سُسَت مواتير) عقلها بالكامل.. و لم تترك مجالاً .. و لو يسيراً .. لتفاهات السياسة و المجتمع .. !!! ..
التفت لـ (غريب) و أردفت بشيء من الضيق ...
- ما تخلصني بقى يا (غريب) خليني أمشي .. ! ..
- حاضر يا (حاتم) بيه ... يا (علاااااااااء) ... اكتب للبيه حسابه .. ! ...
كان يعلم جيدا أنني أفضل التعامل بالورقة و القلم ... حتى أراجع الحساب على مهلٍ .. و أتأكد من أنه لم يخدعني بطريقة أو بأخرى ...
ناولت الفتى قلم من جيب سترتي ... ثم أخذت أبحث في بقية الجيوب عن وريقة صغيرة ليدون عليها الحساب ...
- خلاص يا باشا ...
قالها الفتى ثم انحنى على الأرض و التقط ورقة مطوية ملوثة بأحذية المارة ... أخذ يخط عليها بالقلم .. و ناولني إياها فأمسكتها بشيء من التقزز المتردد ..
حقاً .. تصرف عبقري لا يصدر إلا عن ... (علاء) !!! ..
تحسست جيبي و أخرجت الحافظة .. ناولت الفتى المطلوب و شكرته ... كنت على وشك أن ألقي بالورقة المقززة إلا أن الفضول أغراني بفضها ... فأمسكت بها من الأطراف و فتحتها .. و ما احتوت عليه الورقة كان آخر شيء يمكن أن يطرق ذهني وقتها ...
رسالة انتحار كانت ..
و ياللهول !!! ..
****************************************************************************
" حبيبتي الغالية (ريم) ..
أكتب إليكِ لعلها تكون آخر مرة أزعجكِ فيها ... و لكنني قبل أن أمضي ... أريد أن أصارحك بشيء ما .. بسر ما ... سر احتفظت به في قلبي و أغلقته عليه .. و ما أغلقت عليه قلبي هو .. أنت يا (ريم) .. (ريم) .. أنت السبب في كل شقائي .. نعم .. شقائي الذي لن ينتهي إلا برحيلي ... رحيلي الذي سيريحك .. و يريحني .. لا تبكِ عليَّ يا (ريم) .. فأنا لا أستحق دمعة واحدة من عينيك الجميلتين .. عينيك اللتان سحرتاني .. سحرتاني ... و أمرتاني بالرحيل .. فها أنا ذا أرحل .. أرحل دون أن أراكِ .. دون أن أودعكِ .. دون أن أبوح لكِ بحبي ... سأتخلص من حياتي يا (ريم) ..
سأنتحر .. سأنتحر بصمت .. فوداعاً .. وداعاً يا حبيبتي .. وداعاً يا حياتي .. وداعاً .. يا (ريم) ..
محمود "

****************************************************************************
ما أن انتهيت من قراءة الرسالة حتى تذكرت كلمة زميلي (أحمد العلمي) الشهيرة - التي نختلف بشأنها كثيرا-.. واصفاً الأعمال التي تردنا في الجريدة لتحكيمها في المسابقات ..
- العيل من دول يمسكلك آخر كلمة من الجملة الأخرانية و يلزقها في الجملة اللي بعدها ... و يكمل بأي هبل ... و يفتكر بكده إنه بقى (نبيل فاروق) .. ولا حدش يقدر يكلمه نص كلمة بعدها .. عالم تقرف !! ..
هززت رأسي هزة بسيطة و كأنني أطرد (أحمد) منها ... و طالعت الكلمات من جديد لعلي قد أخطأت الفهم أو القراءة .. و لكن للأسف .. الفتى لا يمزح ..
(سأنتحر) .. كلمة واضحة المعنى .. و لا تحتاج لذكاء خارق ليثبت نوايا الفتى في قتل نفسه ! ..
استندت بجسدي على السيارة .. و أخذت أرتب أفكاري بصعوبة ..
" حسناً .. اسم الفتى واضح ... هذا أولا .. ثانيا .. هنالك نسبة كبيرة ترجح أنه من سكان هذه المنطقة .. الورقة ليست ملوثة بدرجة كبيرة و هذا يعني أنها كتبت حديثاً .. كلا كلا .. بل ألقيت بالشارع حديثا .. هذا ثالثا .. رابعا .. من الممكن جدا ألا يكون الفتى قد تخلص من حياته حتى الآن .. يمكنني أن أسأل (غريب) إذا كان هنالك أي جريمة انتحار قد حدثت مؤخراً .. و لكن لأدع هذا السؤال جانباً حتى لا أثير شكوك (غريب) حول سلامة قدراتي العقلية ! ... "
تررررررررررن .. تررررررررن .. ترررررررررن .. ترررررررن ...
كان هذا صوت هاتفي المحمول الذي انتزعني من أفكاري .. أخرجته من جيبي ثم نظرت لشاشته لأعرف هوية المتصل .. فإذا به رئيس التحرير ..
- آلو ..
- آلو .. أيوه يا (حاتم) .. بحاول أكلمك بقالي ساعتين و تليفونك خارج الخدمة ... فين يا سيدي المقال ؟ .. الطبع واقف عليه ..
- مقال إيه ؟ .. ما أنا بعتهولك على الإيميل بتاعك ..
- مافيش حاجة وصلت ... و المطبعة واقفة عشان خاطر مقالتك !! ..
- طيب طيب .. هكلم (منال) تبعتهولك من البيت ..
- ماشي يا سيدي ... أديني مستني.. سلام ..
- مع السلامة ..
أنهيت المكالمة ثم ضغطت على أزرار الهاتف ناشداً صوت زوجتي .. و أخيراً أجابت بعد خمس محاولات فاشلة ! ..
- نعممم !
نعم؟؟!! .. رد لاشك دعاني للتفتيش في دهاليز ذاكرتي عن حمق ارتكبته في حق شخصها المصون ...
- أيوه يا حبيبتي إزيك ؟ ..
- عايز إيه ؟!! ..
رد آخر طمأن قلبي و أكد لي أن وجهي الوسيم سيتصدر صفحات الحوادث غداً ... مع كلمة رقيقة من زوجتي مضمونها .. " أهو كلب و راح " !! ..
أسلمت أمري لله وحده و توكلت عليه من ثم ألقيت عليها السؤال ..
- في حاجة يا حبيبتي؟ ... أنا حاسس إنك مضايقة ..
- بجد؟؟!!!
- آه و الله !
أجبتها ببراءة ما كانت منها إلا أن زادت من حنقها فأضافت ...
- طيب لما تفتكر إنتا عملت إيه إبقى كلمني تاني !! مع السلامة ..!!!
تييت تييت تييت تييت ...
هل اليوم هو الحادي عشر من سبتمبر ؟ .. أبدا .. إذا فاليوم ليس عيد ميلاد حماتي العزيزة ... و بالتالي فأنا لم أنسَ !! .. هل هو عيد زواجنا ؟ .. كلا البتة .. فلقد احتفلنا به منذ شهرين ... و على حسب معرفتي الضئيلة فهذه المناسبة لا تباغتني إلا مرة واحدة بالعام ...
أخذت أدير أيام السنة برأسي بحثاً عن أي عيد أو أية مناسبة أكون قد غفلت عنها ... و لكن بحثي باء بالفشل فاستسلمت لقضاء الله و قدره ... و استنجدت بالخطة رقم واحد ... فهي دائما ما تأتي بنتائج إيجابية ...
سأبتاع أية هدية و أقدمها لها لعلها تصفح عن ذلك الجرم الذي ارتكبته و لا أتذكره ... و لكن قبل ذلك سأقصد مكتبي في وسط العاصمة لأبعث لرئيس التحرير بالمقال من هناك ... حسنا لأنطلق إذا ..
وضعت يدي بجيبي لأخرج مفتاح السيارة ففوجئت بالورقة إياها و قد نسيتها تماما في غمرة ما حدث ... وقفت مكاني و كنت على وشك الانفجار ... إلا أنني لم أجد أحد ممن أعرفهم لأصب عليه حمم غضبي .. ففتحت الرسالة و نظرت لأخر كلمة مدونة بها و صحت بحنق لفت أنظار معظم المارة إليَّ ..
- الله يخرب بيتك يا (محمود) !! ...
****************************************************************************
من الساعة الثانية و الثلث مساءاً حتى الساعة الرابعة و النصف عصراً و أنا أبحث عن ذلك المحمود .. و الحقيقة أنني قد قابلت العديد منهم ... و معظمهم يستحق الانتحار عن جدارة ... و لكن (محمود) كاتب الرسالة ... لم يكن واحد منهم ...
بالطبع معظمهم اعتقد أن عقلي "خفيف" ... خصيصاً حينما كنت أخرج الورقة و أريهم إياها و أسأل بكل ثقة .. "هو إنتا اللي كتبت الجواب ده؟" فينظر إلى أحدهم و الشك يملأ عينيه و يجيب بتوجس "لأ .. مش أنا" .. و يبتعد عني مسرع الخطى ...
و الغريب في الأمر أن معظم سكان الحي كانوا يتطلعون إليَّ بنفس طريقة فتاة "السُسَت" ! .. ذات النظرة التي تقول " أنا شفتك فين قبل كده ؟" .. حتى بائعة المناديل التي سألتها عن (محمود) رقم 9 في قائمتي .. تطلعت إليَّ و أردفت بثقة ..
- إنتا بتاع الكاميرا الخفية .. مش كده ؟!
و أرهقني البحث لأقصى درجة ... و أصابني بصداع نصفي رهيب ..
و (محمود) يأبى أن يظهر ... و عقارب الساعة تأبى أن تتراجع للوراء ... أو حتى تتوقف لمواساتي ... و لو لبضع دقائق خاوية ...
****************************************************************************
- فين المقالة يا (حاتم) ؟؟!!
- حاضر ... هبعتها ..
- بقالك أكتر من ساعتين بتقلي كده .. و الطبع واقف عليها !! ..
- حاضر حاضر !! ..
****************************************************************************
ثلاث ساعت مرت ... و بحدثي عن المذكور لم يتوقف لدقيقة واحدة ... حتى أن عقلي المجهد وزني بتأجير عربة من طراز "الكارو" و اللف في الحي مناديا بالمايكروفون بحثاً عن عنه ...
- إنتا فين يا (محمود)؟ ... (حاتم) بيدور عليك !! ...
و لكنني أعرضت عن هذا لما قد يؤديه من ضرر بالغ في مكانتي الاجتماعية ... و تأكيد لفكرة المرأة إياها عن كوني من أفراد الكاميرا الخفية !!! ...
****************************************************************************
- المقال يا (حاتم) !!
- حاضر !
****************************************************************************
(العلمي) اللعين لا يجيب على هاتفه ... بالرغم من تأكدي أنه بالمكتب !! ..
****************************************************************************
جررت قدماي كالقائد المهزوم في المعركة ... و اتجهت نحو السيارة و أنا عازم على الرحيل .. فلقد كللت محاولاتي البائسة بالفشل ..
لمحني (علاء) فاقترب مني و سألني بقلق يغلب عليه الفضول ..
- في حاجة يا أستاذ؟ ... حضرتك بقالك ييجي تلات ساعات سايب العربية هنا و بتلف ... في حاجة ؟ ...
رفعت رأسي إليه و تمتمت بلامبالاة ..
- لا عادي كنت بدور على واحد ... بس مالقيتوش ...
- طيب ما كنت تسألني يا باشا و أنا أساعدك ...
- ما أنا سألت الأسطى (غريب) و قالي مايعرفوش ...
انحنى عليَّ الفتى و همس في أذني ..
- ده حمار و لا يعرف حاجة ... اسألني أنا و أنا أدلك ...
زفرت بضيق من إلحاح الفتى ... و بحت له باسم المذكور كي أتخلص من ثرثرته ..
- (محمود) ... بدور على واحد اسمه (محمود) ... و لفيت الحتة كلها و مالقيتوش ...
- أمممم ... طيب ماقالكشي هو ساكن فين بالظبط ؟
- لأ!
وقف يحك ذقنه قليلاً .. و كأن الإجابة ستتساقط منها حتماً .. فهممت بالرحيل إلا أنه استوقفني قائلاً ..
- طيب شفت (حُكشة) اللي في البيت ده؟
قالها ثم أشار للبيت الذي تقع فيه الورشة ...
- مين؟!!
- (حُكشة) يا باشا ... ما هو اسمه الحقيقي (محمود) ... بس ده واد عبيط .. مايتهيأليش إن حضرتك تعوز الأشكال دي ولامؤاخذة ...
- هو ساكن في أنهي دور؟ ..
- الدور التاني ..
شكرته و اتجهت ناحية مدخل البناية ... مقنعاً نفسي أن هذه آخر محاولة ... و سأقوم بها فقط من أجل إرضاء ضميري ... و إقناع نفسي أنني قد فعلت كل ما كان بوسعي أن أفعله ... بالرغم من اقتناعي حينها أنها حتما ستكون آخر المحاولات ... الفاشلة ...
وقفت أمام باب الشقة المزعومة ... و ضعطت على الجرس .. و ما هي إلا ثوانٍ معدودة حتى انفرج الباب ... و أطل منه رجل في العقد السادس من عمره ... و ما إن رآني حتى اتسعت عيناه في مزيج من الفرح و عدم التصديق ...
- أستاذ (حاتم فؤاد) ؟؟!! ... مش معقول ...
و أخيراً ... تعرف علىَّ أحدهم !! ... ابتسمت و أضفت ..
- أنا آسف طبعا إني جاي من غير معاد ... بس أنا كنت عايز (محمود) في حاجة ضروري جداً ...
- (محمود) ابني ؟!! ...
وقعت في حيص بيص حينها ... و أربكني السؤال ... فهل كان سؤالاً استنكارياً أم أن البيت يحوي أكثر من (محمود) ؟!! ... فسألته و كأنني أمزح ..
- هو في (محمود) تاني هنا ؟ ..
- لأ ... آه .. معلش آسف إني سايب حضرتك واقف على الباب .. اتفضل اتفضل ... ثواني و هنده (محمود) حالاً ...
قالها و أفسح لي الطريق ... و أشار إلى إحدى المقاعد فجلست و انتظرت و ما هي إلا دقائق و ظهر أمامي الفتى ...
كتلة من الأشياء كان .. أو نموذج مصغر من الفيل الأبيض الهندي الأصيل !! ... تبدو عليه علامات الاندهاش التي اقتنعت مع الوقت أنه قد ولد بها ... وقف عند باب الغرفة و فتح فمه لدرجة أقنعتني أنه لا ينوي إغلاقه قريباً !! ...
- إنتا (محمود)؟ ..
سألته و لكننه انتظر بضع لحظات حتى يستوعب السؤال ثم أومأ رأسه بالإيجاب ...
- طيب يا محمود .. أنا مش عايز أزعجك أنا بس كنـ ...
قاطعني الفتى و انطلق يتكلم و كأنه كان محروماً من الحديث طيلة عشرة أعوام كاملة ...
- أنا بشوف برنامج حضرتك كل يوم اتنين ... و قرأت كل كتبك ... آآآ .. معظمها يعني ... و .. و .. و بقرأ المقال بتاع حضرتك اللي بينزل كل يوم أربع ... و .. و ..
- خلاص يا ابني ... هو ده كل اللي بعمله في حياتي ..
قلتها ممازحاً إياه لعله يهدأ قليلاً من فرط الانبهار و الدهشة ... و لكنه ما لبث أن انطلق يتحدث من جديد ..
- و أنا ... أنا بحب حضرتك جداً جداً ... و بيعجبني كل حاجة بتكتبها ... و بعتبر حضرتك و الدكتور (نبيل) مثل أعلى ليا ... آه و الله ...
- يا ابني أنا مصدقك و الله مش محتاج تحلف ...
قلتها فصمت ... فانتهزت هذه الفرصة و أخرجت الورقة لأريه إياها و أتلقى منه كلمة "لأ" و أنطلق لحال سبيلي لعلي أستفيد و لو بآخر سويعات هذا اليوم الرهيب ...
- بص في الورقة دي كده يا (محمود) ... إنتا اللي كاتب الكلام ده ؟ ..

أمسك الفتى بالورقة و قربها من عينيه ... و ارتسمت على وجهه علامات الدهشة التي لم تكن قد فارقته من الأساس !! ... و أردف بحيرة غريبة ..
- أيوه أنا اللي كاتبها ... بس إزاي وصلت لحضرتك؟! .. أنا مابعتهاش للمجلة لسه ...
أول ما سمعت كلمة "أيوه" شعرت بفرحة غريبة لم أشعر بها إلا حينما فازت (مصر) على (الكاميرون) بأربعة أهداف !! ...
اقتربت من الفتى أكثر و عدلت من وضع منظاري الطبي كنوع من البروتوكول الوعظي .. و وضعت يدي على كتفه و بدأت بالعزف ..
- و إنتا ليه عايز تنتحر يا ابني ؟ .. الدنيا فيها حاجات حلوة كتير .. و إنتا لسه صغير و الحياة قدامك لسه بتتـ ...
قاطعني الفتى الذى كان لحطتها قد احتكر توكيل الاندهاش في العالم بأسره و أردف ..
- و مين قال إني عايز أنتحر ؟؟!! ..
- نعم؟؟!!
- أنا مش عايز أنتحر ..
- أمال إنتا عايز إيه ؟؟!! ... قصدي أمال إنتا كاتب الجواب ده ليه ؟!! ..
- أنا كنت كاتبه عشان أقدمه في المسابقة اللي في الجريدة بتاعت حضرتك ... المسابقة بتاعت الرسالة ...
نظرت إليه و أنا أكاد أجن ... و كدت أنحني على يديه لأقبلهما و أنا أتوسل إليه قائلاً " أرجوك تنتحر ... أرجوك تنتحر !!" ... فقط .. لأشعر أن يومي و أعصابي لم يذهبا هباءاً ...
- يا أستاذ (حاتم) ... أنا لايمكن أفكر بالانتحار ... لأني عندي هدف في حياتي ... أنا عايز أبقى كاتب كبير زي حضرتك و زي الدكتور (نبيل) ... اللي بينتحر ده هو اليائس اللي معندوش حاجة يبقى عليها في الدنيا ...
قال تلك الكلمات الحكيمة – من وجهة نظره- و وقف مختالا فخورا بذاته ... و لحظتها ... لحظتها فقط .. أردت أن أتحول لأدهم صبري لأحرك أطرافي الأربعة في حركات قوية و سريعة باتجاه "قفاه" لأسدد له صفحة محترمة .. تكون مصدر إلهام له لعدد من الروايات ذات الأجزاء المتعددة !! ...
نكست رأسي و أنا أتخيل رئيس التحرير الذي حتما قد أصيب بشلل الأطفال من جراء فعلتي ... و (منال) ... (منال) أتخيلها و قد أشعلت فرن البوتوجاز ... و حضرت الأكياس البلاستك و الساطور لاستقبالي بحفاوة بعد أن تركتها اليوم بأكمله دون أن أعيرها أدنى اهتمام ...
رفت عيناي للفتى .. فقط لأسأله سؤال واحد لعل الفهم يعزيني فيما حدث ...
- طيب الورقة دي وصلت الشارع إزاي ؟ ..
- لا عادي ... أصلي لما بخلص كتابة و أحس إن اللي كتبته ش عاجبني ... برمي الورقة من الشباك ...
- و كمان معفن ؟؟!!
هذا ما دار بعقلي حينها ... لولا أني لجمت لساني في اللحظات الأخيرة ...
- طيب يا ابني ... أنا هستأذن بقى ... سلام عليكم ...
- طيب معلش يا أستاذ (حاتم) ... هسأل حضرتك على حاجة .. بما إن حضرتك قرأت عملي يعني ... إيه رأي حضرتك في أسلوبي؟ ... أنفع؟ ...
نظرت للفتى و أخذت أتحسر و أتندم أشد الندم على عدم إمكانيتي في أن أصبح (أدهم صبري ) ... أو حتى (سونيا جراهام)!! ...
- آه ... إن شاء الله هتنفع ! ...
قالها ضميري الملح ... الذي رفض أن يضحي بمعنويات الفتى ... و جررت ساقاي و تقدمت ناحية باب الشقة ... ثم التفت للفتى و أضفت ...
- ما تبقاش ترمي حاجة في الشارع تاني ؟!
فسألني بذكاء غريب ... و عينان متقدتان و على أشد استعدادهما للتعلم و الاستفادة ...
- ليه؟ ..
- عشان النضافة من الإيمان !! ...
قلتها و الغيظ بداخلي يستحلفني أن أنتقم منه ... و لكنني سارعت بالخروج و جذبت الباب خلفي ... و عدت للشارع و سألت أحد المارة عن أقرب "نت كافيه" لأبعث لرئيس التحرير بالمقال ...
ترررررررن ترررررررن ... تررررررن تررررررن
أخرجت الهاتف من جيبي متوقعاً أن يكون رئيس التحرير ... يحدثني من العناية المركزة و هو في آخر رمق له مطالباً بالمقال !!
و لكن و لدهشتي و جدت الشاشة تضيء باسم زوجتي ... (منال) .. كان هذا هو الاسم المكتوب على الشاشة ... أجبت و أنا في حالة تخدير كامل من هول المفاجأة و أردفت ...
- ألووو؟ ..
- أيوه يا (حاتم) إنتا فين ؟؟ ... أنا قلقت عليك أوي ...
رفعت حاجبي الأيسر غير مصدق ... و لكنني أجبت بسرعة ... مقنعاً ذاتي أن الكذب الأبيض حتما ينفع في اليوم الأسود ! ...
- أنا عند (غريب) ... أصل العربية كانت على آخرها و اضطريت أقعد جنبها لحد أما تخلص ...
- طب مش تطمني يعني ؟؟ ...
- معلش ...
- طيب قدامك قد إيه كده ؟ ...
- لا أنا خلصت خلاص و جاي أهه ...
- طيب ما تتأخرش بقى و سوق على مهلك ...
- حاضر ... مع السلامة ..
- سلام ...
أغلقت الخط و أنا أكاد لا أصدق ... و انزاح عن كاهلي جزء كبير من الحمول ... و أخذت أحث الخطى تجاه المقهى لولا أنني سمعت صوتا يهتف باسمي ... فالتفت فإذا به (محمود) !!
- خير في إيه؟ ..
- أنا عايز أطلب من حضرتك حاجة معلش؟ ...
- خير ؟ ..
- كنت يعني ... عايز أعرض على حضرتك أعمالي كلها ... يعني لو حضرتك عندك وقت تقرأها و تعلق على أسلوبي و الأفكار و كده ...
ابتسمت بعد تردد... فما كان أمامي في النهاية إلا أن أبتسم ... الفتى يريد أن يصبح كاتباً ... و جزء من حياتي هو إعداد أمثاله ...
أخرجت بطاقة صغيرة من حافظتي ... و ناولته إياها و أضفت ...
- ده الكارت بتاعي ... فيه التليفونات و عنوان المكتب ... إبقى كلمني نحدد معاد ...
تناول الفتى البطاقة بسعادة غامرة شاكرا إياي و كان على وشك الانصراف إلا أنني استوقفته لأسأله عن شيء باغت عقلي لحظتها ...
- إلا قلي يا (محمود) ... إنتا ليه كتبت اسمك الحقيقي في آخر الرسالة ؟ ...
احتار الفتى قليلاً ... ثم ابتسم و أجاب و قد احمر وجهه ..
- صدقني يا أستاذ مش عارف ... بس ماجاش في بالي ساعتها اسم تاني غير اسمي ...
"إنه القدر يا عزيزي الذي دفع رسالتك إلى طريقي ... لأضعك على أول الطريق " ... جاءتني الإجابة من داخل رأسي ... فابتسمت بدوري .. و ودعت الفتى و انطلقت أحث خطاي تجاه المقهى ...
و في عقلي يقين راسخ أن هذا الفتى حتما سيكون كاتباً مشهوراً ...
ليضرب بنظرية (العلمي) عرض الحائط ...
و يتزوج من (ريم) ليصيبها بالضغط المزمن من أفعاله ... ثم تعود لتقلق عليه حين يتأخر ...
و سيقابل العديد من فتايات السُسَت ... فقط .. ليحمد الله على تلاميذه النبغاء المتعطشين لعلمه ..
و سيطارده رئيس تحريره بين الحين و الآخر من أجل مقاله الذي يتوقف عليه الطبع !! ...
نعم ... سيصبح كاتباً مشهوراً ذات يوم ... لا شك في ذلك ...

- تمت بحمد الله -

هناك تعليقان (2):

غير معرف يقول...

سلام الله عليكم ورحمته وبركاته..

أهلاً بـ يارا العزيزة و إحدى إبداعتها..

أعجبتني أقصوصتك للغاية, انبهرت بعقدة العمل ..الفكرة مبتكرة و أسلوبك رائع..

أكثر ما أعجبني هو إحكامها, فلو لم تعطي تفسيراً لتذييل محمود الرساله باسمه , لكانت ثغرة في القصة.. ممتاز جداً موقع ذلك التفسير كخاتمة لأنها أكسبتها قوة...

يارا.. إن شاء الله ستكونين من الكتّاب المرموقين في يوم من الأيام و سيكوت هذا قريباً إن شاء الله :)

تمنياتي بالتوفيق,,

محمد أبو جاد الله

غير معرف يقول...

صحيح.. نسيت أن أبارك لكِ على المدونة.. ألف مبارك و مرحباً بكِ في عالم المدونات :)

اسمها أعجبني كثيراً رغم عدم منطقيته في مدونة :D.. بدون كلام

تحياتي العطرة..و امنياتي بالتوفيق و التفوق :)

محمد أبو جاد الله