الجمعة، 7 مارس 2008

فقط ... من أجل هذا ...






كل شيء في هذه الحياة يحدث لسبب ما ... قد يكون مبررا ... و قد يكون مبهما ... و لكن دائما و أبدا هنالك شيء ما يدفعنا لنتحرك ... لنخطو خطوة للأمام ... لنسافر ... لنرحل ...لنقترب ...لنبتعد ... لنبدع ... لنختنق ... لنحيا ... لنموت ... و لنكون دائما ما نحن عليه ... مجرد بشر ...
************************************************************
( ممنوع الانتظار قطعيا )

أوقفت سيارتي تماما تحت تلك اللافتة .... عادة مصرية قديمة هي و تعد من القواعد الغير مكتوبة فعلامة ممنوع الاتنتظار تعني ... يمكنك الاتنظار هنا... شددت فرملة اليد جيدا و أخذت أضع حاجياتي داخل حقيبة يدي بشيء من السرعة .... سقط الهاتف من يدي فانحنيت ألتقطه و اعتدلت لأجد شرطيا يقف بجوار السيارة و بيده دفتر المخالفات ... حاولت أن أبتسم ابتسامة ودودة لعلي أظفر ببضع دقائق من الانتظار ...
- ممنوع الوقوف هنا يا آنسة ... مش شايفة العلامة؟
- أيوه ... بس حضرتك هيا كلها ربع ساعة و همشي على طول ...
- ما ينفعش يا ست ما تجيبلناش الكلام ... الأمين هيعدي كمان شوية و لو لقي عربية واحدة راكنة هنا يومي مش هيعدي على خير...
نظرت إلى صف السيارات المتراص على امتداد البصر ... ثم نظرت إلى الرجل نظرة تكاد تنطق لتقول ( أمال دول بيعملوا إيه هنا؟ ) ... فكرت مليا و دسست يدي داخل حقيبتي و أخرجت ورقة نقدية وضعتها ما بين أناملي ليراها الشرطي ...
- هيا ربع ساعة بس و مش هتأخر ...
نظر إلي و أومأ برأسه علامة على موافقته ... فدسست الورقة بيده شاكرة ذلك الفلكلور المصري العتيد ... و أخذت أهرول عابرة شوارع وسط المدينة ذات الطابع الكلاسيكي القديم والذي يبدو أنه قد ترك آثاره على قاطنيها و روادها... و احتل أيضا جزءا كبيرا من قلبي .... كان يقطن في تلك البناية التي كنت أقف تحتها مباشرة ...
**********************************************************
ألقيت نظرة سريعة على ساعة يدي فوجدت عقاربها تشير إلى الحادية عشرة إلا الربع ... زفرت بشدة فلم أكن ممن يوصفون بدقة مواعيدهم ففكرة الوقت ذاتها تكاد تقتلني ... تأملت الباب الذي كنت أقف أمامه و ابتسمت ابتسامة عريضة انتظارا لذلك الوجه الذي كنت أتوقعه ... دققت جرس الباب و تراجعت للوراء بضع خطوات و انتظرت ... لا أحد يجيب ... مددت إصبعي لأعيد الكرة فسمعت صوت الرتاج و رأيت الباب يفتح ببطئ و على وجه صاحبته علامات الضيق المصطنعة ... دفعت الباب لأرتمي بين أحضانها ... كانت تلك ( سامية ) أقرب اصدقائي إلي و صندوق أسراري الأمين ...
- إيه المواعيد البايظة دي؟
- معلش بقى يا (سوسو) الشوارع زحمة أوي و بعدين إنتي عارفه إن أختك بتسوق على أربعين ...
أطلقت ضحكة مرحة .. تلك التي أعشقها و بادرتني سائلة و هي تقودني إلى المطبخ ...
-عاملة إيه يا بنتي؟
-الحمد لله ...
ترددت لحظة قبل أن أفتح فمي لأسألها عن شيء ما ... فقدمت لي مقعدا و أشارت إلي أن أجلس بجوار الطاولة ...
- أمممم ... و إنتوا بقى عاملين إيه يا (سوسو) ؟...
نظرت إلى بطرف عينها ثم أجابت بخبث ...
-أنا؟ ... أنا كويسة ...
نظرت إليها بغيظ حيث أنها تعلم ما أرمي إليه ... فضحكت ضحكة عالية لما رأت تعبير وجهي الحانق ...
- خلاص خلاص لحسن يجرالك حاجة ... هوا كويس .. و بيسلم عليكي .. و كان عايز يستــ ....
ثم أطلت برأسها فجأة من شباك المطبخ الداخلي في حركة عنيفة لتصرخ في ذلك الكائن البرئ الذي هو ابنها ...
- ولد يا (حازم) ... مش بتذاكر ليه؟؟؟ عارف أنا لو جيت و لقيتك في نفس الصفحة ؟ يومك مش هيعدي على خير ...
ثم اعتدلت و أدارت وجهها لتنظر إلي ...
-الولد ده هيجنني... ما بيذاكرش خالص و تالتة ابتدائي شهادة ...حاجة تقرف ... بموت نفسي عشانهم و ولا هما هنا ...
و اتجهت ناحية الموقد لتتابع الطعام الذي كانت تعده قبل حضوري و لمحت في عينيها شبح دموع ما لبثت أنا تداركت نفسها و عادت من حيث أتت ... فملت عليها و وضعت كفي على ظهرها برفق و سألتها ...
- (سامية) إنتي كويسة؟
بادرتني بابتسامة مصطنعة لم تستطع خداعي ...
-طبعا كويسة ... حد يشوفك و ما يبقاش كويس؟
-(سامية) إنتي مبسوطة مع (علاء)؟
فظهرت على وجهها إمارات الضيق و ما لبثت أن أردفت ...
-أهي عيشة و السلام ...
- يعني لو كنتي بس سمعتي كلامي و إتمسكــ....
في تلك اللحظة اندفع نحوي جسد صغير احتضن خصري بكل قوته و بادرني هاتفا ...
- تنت (سالة) ...
أي طنط (سارة) ... احتضنت الصغير و حملته لأضعه على المنضدة فسارع بإخفاء شيء كان يحمله وراء ظهره ... قبلته و التفت إلى أمه لأكمل حديثي معها ...
-طيب (علاء)مريحك يعني؟كويس معاكــ...
هز الصغير كتفي فنظرت نحوه لأجد ذلك القناع المخيف على وجهه فرسمت على وجهي علامات الخوف ممازحة إياه ...
- يا مااامي ...
- أوليكي يا تنت البعبع بيعمل إزاي ؟ ..... عووووووووووو ....
أخفيت وجهي بكلتا يدي و هتفت من جديد ...
- يا مامي ...
قبلته و التفت مرة أخرى لوالدته التي كانت على ما يبدو تصارع حالة من الحزن سببها سؤالي ... فحزنت لذلك و توجهت إليها و ربتت على كتفها ... فنظرت إلي و ابتسمت قائلة...
- (سارة) إوعي تبقي زيي في يوم من الأيام ...
و عاودت النظر إلى إناء الطهي منهية بذلك حديثنا و معلنة اكتفائها بتلك الكلمات ... أطرقت لحظة و فهمت ما ترمي إليه هي ... فما قالته لم يكن بحاجة إلى ذكاء خارق ليفهم ... تنهدت تنهيدة حارة ثم وقعت عيناي تلقائيا على ساعة الحائط المعلقة بالمطبخ ... و ما أعلنته الساعة لم يكن ليسرني فقد تأخرت على ميعاد الدرس كعادتي ... متعة أخرى سيحظى بها المحاضر في تلذذه بإذلالي حتى يسمح لي بالحضور ... قبلت (سامية) و الصغير في عجلة و انطلقت أشق طريقي إلى الباب محاولة إيجاد حجة لتأخري فلربما تقنع المحاضر ....
**********************************************************
- ما تنسوش تعملوا (كنترول إس) كل شوية عشان لو الجهاز هنج ...
نطقها المحاضر و أخذ يتجول في القاعة متفقدا أحوال المتدربين ...
- كنترول إس ... كنترول إس ... كنترول إس !!!!! ... بقالي ساعة بعمل كنترول إس و الجهاز مش راضي يسيف ... منه لله اللي اخترع البتاع ده ... ربنا ينتقم منه !!!
أخذت أتمتم بتلك الكلمات الحانقة و ما لبثت أن سددت صفعة قوية للوحة المفاتيح أحدثت صوتا مكتوما ثم عاودت المحاولة من جديد ... لم أكن حقا من محبي أجهزة الحاسوب و لا من المتحمسين للتكنولوجيا من الأساس فقد كنت أرحب بالحياة على أبسط أشكالها ...نظرت إلى لوحة المفاتيح مرة أخرى فلاحظت ظلا خفيفا عليها التفت أنظر بجواري فإذا بالمحاضر يقف متأملا ذلك المشهد المتكرر ... حاولت أن أبتسم معللة ما فعلته ...
- أصل يا باشمهندس الجهاز مهنج من الصبح و مش راضي يســ ...
- باشمهندسة (سارة) ... ياريت تعدي عليا بعد المحاضرة ما تخلص ...
(صبحنا و صبح الملك لله)... دارت تلك العبارة بخلدي فلم أكن مستعدة أبدا لتلقي وابلا من التقريع من أجل قطعة من الحديد ... و لم أكن مستعدة بتاتا للتعامل مع ذلك الشخص ... ( محمد عبد السميع ) فأنا عن نفسي أخشى الاحتكاك به ... لا لم يكن من ذلك الطراز المخيف من البشر ... و لم يكن مكشرا عن أنيابه أبدا ... و لكنك يمكن أن تطلق عليه لقب (وغد قديم) و تكون متيقنا مع ذلك أنك قد ظلمت الأوغاد أنفسهم ... البعض أيضا يطلق عليه لقب (ذئب) ...
يحكى عن ذلك الرجل العديد من الأشياء الغريبة ... و أكثر ما شد انتباهي حقا هي تلك الرواية التي تزعم أنه قد أقنع جدته التركية أن كلية الهندسة سبع سنوات و أنه بعبقريته الفريدة قد اختصر تلك السنوات إلى خمس فقط ليحظى بسيارة من طراز ال(بورش) ... و لا عجب في ذلك فما عرفته عن تلك المرأة أنها لا تزال تعتقد أن كلية الهندسة تدعى ( المهندس خانة ) ... أنهيت ما أمامي في عجالة و لملمت وريقاتي و أخذت نفسا عميقا ... و خطوت بضع خطوات مترددة تجاه باب القاعة حيث ينتظرني ذلك الوغد ...
**********************************************************
إوعي تبقي زيي في يوم من الأيام ...
**********************************************************
وقفت أمام الرجل مباشرة و انتظرت حتى ينهي المكالمة التي تلقاها على هاتفه الخاص و أخذت أفكر في عبارات اعتذار مناسبة ... و ما لبث أن أنهى المحادثة حتى بادرته قائلة ...
- أنا متأسفة يا باشمهنــ ..
- باشمهندسة (سارة) ... إنتي دخلتي كلية الهندسة ليه؟
أدهشني سؤاله حقا ... فلم يكن هذا هو نوع الأسئلة التي كنت أتوقعها منه ... حاولت أن أبحث في عقلي المرتبك عن إجابة مرضية أو ربما كنت أبحث عن رد يذهله و لكن ما خرج مني كان أعمق مما كنت أتوقع بكثير ...
- عشان أبقى مهندسة ...
قلب ناظريه في أرجاء الفراغ ثم نظر إلي مرة أخرى..
- طب بلاش السؤال ده ... إنتي ليه بتاخدي كورس ال(فوتو شوب) ده؟
- عشان أي مهندس محترم في مجالنا لازم يكون عارف (فوتو شوب) ...
أطرق لحظة ثم أخذ يهز في رأسه لبضع ثوان اعتقدت فيها أنه لن يتوقف أبدا ... ثم نظر إلي نظرة تحمل معنا ما فهمته فيما بعد ... فتح فمه ليقول شيئا ثم عاد فأطبق شفتيه ... نظر إلى الحائط الذي كان يستند عليه و تنهد تنهيدة عميقة ثم عاود النظر إلي ليقول ...
- بصي يا (سارة) ... أنا هقولك على حاجة ...إنتي ممكن تعتبريها نصيحة ... و ممكن تعتبريها كلام فارغ ....زي ما تحبي ...
أطرق لحظة ثم سدد نظراته إلي و أضاف ..
- لو ما أخدتيش الحاجة اللي إنتي عايزاها .... إوعي ... إوعي تاخدي حاجة إنتي رافضاها ... عشان ما تبقيش خسرتي كل حاجة ...
حاولت أن أفتح فمي لأقنعه أنني أعشق مجال دراستي و أن اختياري له كان بمحض إرادتي ... و لكن النظرة التي في عينيه كادت تنطق لتقول ... أنا لست بغبي ... حقا هو ليس بغبي ... و حقا لم تكن الهندسة و لا الأرقام ولا الحسابات باختياري أبدا ... رفعت رأسي لأنبأه بصحة تكهنه ... و لكنني لم أجده ... كان قد ابتعد ... هذا الرجل يستحق لقب وغد عن جدارة حقا ... و لكنه ليس أبدا بذئب ... كذب من قال ذلك عنه ...
**********************************************************- إزيك يا (سارة)؟
انطلقت تلك العبارة من داخل قلبي لتستقر في أذني فالتفت و أنا أعرف هوية السائل قبل أن تقع عيناي عليه ... كان ذلك (علي) أخ (سامية) الأصغر ... احمر وجهي خجلا قبل أن أجيب على سؤاله ...
- الحمد لله ...
نظرت إلى ساعة يدي و بادرته سائلة ...
- إنتا الكورس بتاعك بيخلص الساعة واحدة ... إنتا بقالك كتير مستني؟
ابتسم و أجابني ...
- و لا يهمك ... أنا أستناكي العمر كله ...
ابتسمت بدوري و مازحته قائلة ...
- إنتا قد الوعد ده ؟
ضحك ضحكة قصيرة ثم عادت ملامح وجهه ترسم الجدية ليبادرني قائلا ...
- أنا قد كل حرف فيه ...
**********************************************************
حبيبي سكر مر ...
طعم الهوى ..
فرق ما بينا الشوك ...
ماعدناش سوى ..

- (سارة)... وطي البتاع ده و تعالي عشان أنا و بابا عايزينك في موضوع ...
لم تكن تلك العبارة من العبارات المفضلة لدي ... فأنا لا أنتمي في هذا البيت سوى لتلك الجدران الأربعة التي تكون غرفتي ... و لم يكن أبدا النقاش الأسري البناء من تلك العلامات المميزة لعائلتي ... فأنا شخصيا أعتبر نفسي من طراز (جعلوه فانجعل) الشهير ... تمنيت في قرارة نفسي أن يكون الداعي خيرا ... و لكنه لم يكن كذلك أبدا ...توجهت إلى حيث أبواي .... نظرت إلي أمي و ابتسمت ... تلك الابتسامة صادفتني كثيرا .... و خذلتني أكثر ...
- بصي يا (سارة) ... في طبيب متقدملك ... و أنا و بابا شايفين إنه مناسب ليكي ... هوا عنده 32 سنة و أهله أطباء هما كمان ... عندهم بيت كبير في المقطم ... و خالــــ ....
لم أنتبه إلى بقية الحديث فلم يكن الأمر يهمني بتاتا ... و لكنه كان عاصفة ستهب على أيامي القادمة لا محالة ... نظرت إلى أبي مستغيثة فإذا به كما هو ... كما عهدته ... و كما رأيته دائما ... كما كان و كما سيظل .... يتصفح الجريدة ...
**********************************************************
- إنتا قد الوعد ده ؟
- أنا قد كل حرف فيه ...
**********************************************************
- البعبع بيعمل إزاي ؟ ..... عووووووووووو ....
**********************************************************
شهدت أيامي تلك نضالا فريدا ... حاولت مرارا أن أشرح وجهة نظري ... حاولت أن أقنع أمي ... و أبي أنني أريد من اخترته أنا ... و لكن مطلبي قوبل بالرفض ...قوبل بالسخرية ... قوبل بالتعنت ... و لسببين لا أكثر حكم على اختياري بالنفي ... أولهما أنه لم يكن اختيار أمي ... و الثاني أن (علي) قد اقترف ذنبا لا يغتفر ... و جريمة شنعاء استحق عليها النفي هو الآخر ... فـ(علي) لم يكن مهندسا ... و لم يكن طبيبا كذلك ...
حاولت أن أتماسك ... حاولت أن أقنع عضلات فمي بالابتسام ... حاولت أن أدعي عدم الاكتراث ... و لكن عقلي رفض أن يظلم قلبي ما تبقى له من العمر ... فتوقف عن التفكير المنطقي ... و أصدر إشارات إلى باقي أعضاء جسدي بالتوقف عن العمل هي الأخرى ...
ما أتذكره من تلك الأيام ليس بالكثير حقا ... مجرد رتوش تركت خدوشها على ذاكرتي .... مجرد أصوات مختلفة ... لم أميز أصحابها ... و لم تكن لتعزيني في شيء ... فلم يكن صوت (علي) من ضمن تلك الذكريات ...

- انهيار عصبي حاد ...
....................................................
- شلل في أطراف الجسد الأربعة ...
....................................................
- هوا مين (علي) ده؟
....................................................
- يا حبيبتي يا (سارة) ....
**********************************************************
( ممنوع الانتظار قطعيا )
**********************************************************
حبيبي سكر مر ... طعم الهوى .. فرق ما بينا الشوك ... ماعدناش سوى ...
************************************************************
أين ذهب (علي)؟ تساءلت نظرات الجميع ... أين (علي)؟ تساءلت أنا ...
كان قد رحل ... و تركني ... لأبقى مع المرض ... و مقتطفات من ذكريات كانت لي معه ....
و لكنني التمست له العذر .. فما فعلته أمي به لم يكن ليوصف أبدا بالترحيب ...

- كرامته يا (سارة) ...

هكذا عللت لي (سامية) موقفه لما رأت السؤال يطل من عيناي يوما ... لم أكن أبدا لألومه ...
و لم أكن أبدا لأمقته ... فقد كان مجرد بشر ... اغتيلت كرامته ...
استعدت بعضا من صحتي بعدها ... تركت المشفى و لزمت البيت ... و كان تفكير أمي حينها أنه طالما أن (علي) قد رحل ... فلا مانع من التفكير في غيره ...
لست بآلة ... هذا ما لم تفهمه أمي يوما ... و لم تقتنع به ....
**********************************************************
- أهي عيشة و السلام ...
***********************************************************
- لو ما أخدتيش الحاجة اللي إنتي عايزاها .... إوعي ... إوعي تاخدي حاجة إنتي رافضاها ....
**********************************************************
(هشام) كان هذا هو الاسم المدون على تلك الدبلة التي صارت تحتضن إصبعي ... لم يكن بالسيء أبدا ... على العكس تماما ... كان شخصا ودودا ... طيبا ... مرحا ... و مهندسا ... تماما كما أرادت أمي ... و كيف له ألا يكون ... أوليس باختيارها هي؟ ... لا أزعم أنني كرهته ... و لكنني لن أكذب أيضا لأقول أنني أحببته ... هو كان كل شيء جميل ... إلا شيء واحد فقط لم يستطع أن يكونه ... لم يستطع أن يكون (علي) ...
في ذلك اليوم خرجت أنا و هو و أمي لانتقاء فستان الزفاف ... أشارت أمي إلى أحد الفساتين المعروضة و سألتني ...

- إيه رأيك في ده يا (سارة)؟
- أي حاجة يا ماما اللي تشوفيه ...

تصرفت كأن الأمر لم يكن ليعنيني ... فهل كان يعنيني حقا؟؟!! ... تركت أمي و (هشام) يتفقدان ما أمامهما من ثياب و وجهت بصري ناحية واجهة المحل الزجاجية ... أخذت أتأمل العالم الخارجي في شيء من الفتور ... رجل عجوز يحاول عبور الشارع دونما جدوى ... شاب يتحدث عبر هاتفه الخلوي و على وجهه علامات الانفعال الشديد ... بائع جائل ينادي على بضاعته ... لا جديد إذا في عالم البشر ... كنت على وشك أن أدير وجهي إلا أن مشهد ما بالخارج أثار انتباهي ... امرأة شمطاء تجر كلبها ال(دوبر مان) محاولة اصطحابه في اتجاه ما لا يريده هو ... أخذ الكلب يحرك أطرافه الأربعة في عكس اتجاه المرأة و لكن دون جدوى ... باءت جميع محاولاته بالفشل فامتثل لأمرها في النهاية ... تعجبت حقا من أمر هذا المخلوق ... فحجمه و قدراته يتيحان له أن يصنع من تلك المرأة وجبة برجر شهية ... ولكنه الوفاء حتما الذي يمنعه ... كان يتوقف بين الحين و الآخر محاولا جذب عنقه خارج الطوق ... و لكن دون جدوى فيثنيه ذلك عن موقفه و يتابع سيره من جديد ... تأملت الكلب في شيء من الحزن و الغيظ معا ... حركت الدبلة التي كانت تطوق إصبعي في حركات دائرية حوله ... أطرقت لحظة و أخذت أتأمل المكان حولي ... ثم رفعت نظري من جديد لأتابع الكلب و هو يحاول الملاص من صاحبته ...

- (سارة) تعالي قيسي الفستان ده ...
كان ذلك نداء أمي الذي لم أكترث به ... نظرت لـ(هشام) فابتسم لي مشجعا ... انتظرت لحظة ثم حسمت أمري ... و خطوت بضع خطوات قليلة تجاهه ...ووقفت أمامه مباشرة و هززت رأسي بالنفي و أردفت...

- مش هينفع ..

- طيب تعالي إنتي اختاري اللي إنتي عايـــ ....
بتر عبارته فما قلته لم يكن ليعني الفستان في شيء ... ما قلته أتبعته بخلع دبلتي و وضعها في راحته ثم وجهت ظهري لهما هما الاثنين و أطلقت لساقاي العنان ... جذبت بابا المحل ففتحته و أخذت أركض بالشارع ... لم أكترث لتعليقات المارة الساخرة ... لم أكترث لنداءات أمي الغاضبة ... لم أكترث لنظرات (هشام) المصدومة ... لم أكترث لأي شيء سوى الهواء الذى كان يصطدم برئتي و كأنه أول لقاء لهما ... ركضت كأن لم أركض من قبل ... و تطايرت الدموع من عيناي لتصطدم بالهواء هي الأخرى ... توقفت قليلا لألتقط أنفاسي فسمعت صرخات متتالية .... انطلقت أذناي لا إراديا تبحث عن مصدر الصوت لترشد عيناي عن الفاعل ... نظرت فإذا بها صاحبة الكلب ... تصرخ بعبارات لم أستطع تفسيرها و تشير باتجاه ما و بيدها الأخرى طوق فارغ .. بلا عنق ... ابتسمت و أدرت وجهي من جديد و واصلت عدوي ... إلى حيث يشاء القدر ...


تمت بحمد الله